فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وأنا أول المسلمين}، وفى سورة الأعراف: {وأنا أول المؤمنين}، يسأل عن الفرق؟
والجواب والله أعلم: أن هذه الآية لما تقدمها قوله تعالى: {قل إننى هدانى ربى إلى صراطى مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا} وقد قال في سورة آل عمران: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} وفى وصيته عليه السام لبنيه: {يا بنى إن الله اصطفى لكم الذين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} وبهذا أوصى يعقوب عليه السلام قال تعالى: {وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب...} الآية، وهى جواب بنى يعقوب حين قال لهم: {ما تعبدون من بعدى} فأجابوا بقولهم: {نعبد إلهك} إلى قوله: {إلها واحدا ونحن له مسلمون} وقال سبحانه لنبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} وقال تعالى: {قل}- أي يا محمد- {إننى هدانى ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا} إلى قوله: {وأنا أول المسلمين}، فإنما قال عليه السلام وعمل واقتدى ظاهرا وباطنا بما أمر به وما درج عليه هؤلاء الصفوة المذكورون ومن سلك مسلكهم وعبارة الإسلام تعم الاستسلام بالظاهر والباطن، والإيمان الذي هو التصديق داخل تحت ذلك وفى جملة ما يطلق عليه اسم الإسلام فقد تحصلت عبارته عليه السلام منبئة عن الكمال في مسمى الإيمان والإسلام على الحال التي درج عليها المصطفون الأخيار وحالهم في ذلك لا يدركها غيرهم من حيث الكمال التام صلى الله عليهم أجمعين ولا قطعنا عن التمسك بهديهم.
فقد وضح بما ورد في هذه الآية الجليلة أنه لا يناسب هنا غير هذا الوارد والله أعلم.
وأما آية الأعراف وقوله فيها: {وأنا أول المؤمنين} فالقائل ذلك موسى عليه السلام حين سأل الرؤية وظن أنها جائزة في الدنيا فلم يسأل عليه السلام محالا وإنما سأل جائزا ممكنا وحاشاه عليه السلام من أن يسأل محالا ويجهل من ربه مثل هذا لولا الجواز، فلما استعجل وطلب ذلك في الدنيا قال له ربه تعالى: {لن ترانى} في الدنيا وأمره أن ينظر إلى الجبل، وأراه تلك الآية العظمى وصار الجبل دكا وخر موسى صعقا لعظبم ذلك المطلع فلما أفاق قال: {سبحانك تبت إليك} ولم يرد عليه السلام تبت من معصية ولا جهل بربه أن يجوز عليه ما لا يجوز فأقدار الأنبياء عليهم السلام فوق ذلك، وهو أعلم الخلق بما يجوز عليه تعالى وما يستحيل ثم قال: {وأنا أول المؤمنين} أي أول المصدقين بأنك لا ترى في الدنيا وليس موضع التعبير بأن يقول: {وأنا أول المسلمين} لأن ذلك الوصف حاصل له عليه السلام على الصفة الحاصلة اللمصطفين ممن تقدم وإنما أراد ما يعبر عن مجرد التصديق بهذا الذي غاب عند جواز تعجيله مع علمه بجوازه على الجملة فقد وضح ورود كل من العبارتين بالإسلام والإيمان على ما يجب ولا يناسب العكس بوجه والله سبحانه أعلم. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}
هَذِهِ الْآيَةُ اسْتِئْنَافُ الْجَزَاءِ الْعَامِّ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْحَسَنَاتِ وَهِيَ الْإِيمَانُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَعَلَى السَّيِّئَاتِ وَهِيَ الْكُفْرُ وَالْأَعْمَالُ الْفَاسِدَةُ. جَاءَتْ فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ الَّتِي بَيَّنَتْ قَوَاعِدَ الْعَقَائِدِ وَأُصُولَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَتْ عَلَيْهَا الْبَرَاهِينَ، وَفَنَّدَتْ مَا يُورِدُهُ الْكَفَّارُ عَلَيْهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ، كَمَا بَيَّنَتْ بِالْبَرَاهِينِ فَسَادَ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ قَوَاعِدِ الشِّرْكِ وَأُصُولِ الْكُفْرِ وَأَبْطَلَتْ شُبُهَاتِ أَهْلِهِ، ثُمَّ بَيَّنَتْ فِي الْوَصَايَا الْعَشْرِ أُصُولَ الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ الَّتِي يَأْمُرُ بِهَا الْإِسْلَامُ، وَمَا يُقَابِلُهَا مِنْ أُصُولِ الرَّذَائِلِ وَالْفَوَاحِشِ الَّتِي يَنْهَى عَنْهَا، فَنَاسَبَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يُبَيِّنَ الْجَزَاءَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْآخِرَةِ، بَعْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى فَوَائِدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِمَا ذُيِّلَتْ بِهِ آيَاتُ الْوَصَايَا. وَمَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِ الْجَزَاءِ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ غَيْرُ مُغْنٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَامًّا كَعُمُومِهَا، وَلَا مُبَيِّنًا لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ كَبَيَانِهَا.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَاءَ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَلَبِّسًا بِالصِّفَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَطْبَعُهَا فِي نَفْسِهِ طَابِعُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. فَلَهُ عِنْدَهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالُهَا مِنَ الْعَطَايَا، فَإِذَا كَانَ تَأْثِيرُ الْحَسَنَةِ فِي نَفْسِهِ أَنْ تَكُونَ حَالَةً حَسَنَةً بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ بِحَسَبِ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى آثَارِ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ فِي تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ، فَهُوَ يُعْطِيهِ ذَلِكَ مُضَاعَفًا عَشَرَةَ أَضْعَافٍ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ عَلَى جَانِبِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ رَحْمَةً مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِعَبِيدِهِ الْمُكَلَّفِينَ. (وَقَدْ قَرَأَ يَعْقُوبُ {عَشْرٌ} بِالتَّنْوِينِ و{أَمْثَالُهَا} بِالرَّفْعِ عَلَى الْوَصْفِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْعَشْرَ لَا تَدْخُلُ فِيمَا وَعَدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْمُضَاعَفَةِ لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِهِ، فَقَدْ وَعَدَ بِالْمُضَاعَفَةِ عَلَيْهَا بِإِطْلَاقٍ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ التَّغَابُنِ {إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [64: 17] وَبِالْمُضَاعَفَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْكَثْرَةِ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [2: 245] الْآيَةَ. ثُمَّ بِالْمُضَاعَفَةِ سَبْعُمِائَةَ ضِعْفٍ فِي قَوْلِهِ مِنْهَا أَيْضًا: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [2: 261] قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُضَاعَفَةِ لِمَنْ يَشَاءُ هَذِهِ الْمُضَاعَفَةَ نَفْسَهَا. وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهَا أَوْ مَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّ الْمُضَاعَفَةَ كُلَّهَا خَاصَّةٌ بِالْإِنْفَاقِ. وَالْأَرْجَحُ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ عَامَّةٌ وَأَنَّ الْجُمْلَةَ عَلَى إِطْلَاقِهَا فَتَتَنَاوَلُ مَا زَادَ عَلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَمَا نَقَصَ عَنْهُ، وَهِيَ تُشِيرُ إِلَى تَفَاوُتِ الْمُنْفِقِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ كَالْإِخْلَاصِ فِي النِّيَّةِ، وَالِاحْتِسَابِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ وَفِيمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْعَمَلِ كَالْإِخْفَاءِ سِتْرًا عَلَى الْمُعْطِي وَتَبَاعُدًا مِنَ الشُّهْرَةِ، وَالْإِبْدَاءِ لِأَجْلِ حُسْنِ الْقُدْوَةِ، وَتَحَرِّي الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ، وَفِي الْأَحْوَالِ الْمَالِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَفِيمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَعْمَالِ كَالرِّيَاءِ وَحُبِّ الشُّهْرَةِ الْبَاطِلَةِ وَالْمَنِّ وَالْأَذَى، فَالْعِشْرَةُ مَبْذُولَةٌ لِكُلِّ مَنْ أَتَى بِالْحَسَنَةِ، وَالْمُضَاعَفَةُ فَوْقَهَا تَخْتَلِفُ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُحْسِنِينَ، فَقَدْ بَذَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كُلَّ مَا يَمْلِكُ فِي سَبِيلِ اللهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَبَذَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نِصْفَ مَا يَمْلِكُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا كَالنِّسْبَةِ بَيْنَ عَطَاءَيْهِمَا. وَالدِّرْهَمُ مِنَ الْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ أَعْظَمُ مِنْ دِينَارِ الْغَنِيِّ ذِي الْمَالِ الْكَثِيرِ، وَمَنْ يَبْذُلُ الدِّرْهَمَ مُتَعَلِّقَةً بِهِ نَفْسُهُ حَزِينَةً عَلَى فَقْدِهِ لَيْسَ كَمَنْ يَبْذُلُهُ طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ مَسْرُورَةً بِالتَّوْفِيقِ لِإِيثَارِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ بِهِ عَلَى مَتَاعِ الدُّنْيَا {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى} [57: 10] وَتَفْصِيلُ التَّفَاوُتِ فِيمَا ذَكَرْنَا يَطُولُ، وَفِيمَا أَوْرَدْنَاهُ مَا يُرْشِدُ إِلَى غَيْرِهِ لِمَنْ تَفَكَّرَ وَتَدَبَّرَ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ذِكْرَ الْعَشَرَةِ أَمْثَالٍ يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ لَا التَّحْدِيدُ لِيَتَّفِقَ مَعَ الْمُضَاعَفَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مَا يُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْنَاهُ وَسَنَذْكُرُ بَعْضَهَا.
{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} أَيْ وَمَنْ جَاءَ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالصِّفَةِ السَّيِّئَةِ الَّتِي يَطْبَعُهَا فِي نَفْسِهِ الْكُفْرُ وَارْتِكَابُ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَلَا يُجْزَى إِلَّا عُقُوبَةَ سَيِّئَةٍ مِثْلِهَا. بِحَسَبِ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ فِي تَدْسِيَةِ النَّفْسِ وَإِفْسَادِهَا وَتَقْدِيرِهِ الْجَزَاءَ عَلَيْهَا بِالْعَدْلِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: الصِّفَةُ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ وَلَمْ نَقُلِ الْفِعْلَةُ، لِأَنَّ الْأَفْعَالَ أَعْرَاضٌ تَزُولُ وَتَبْقَى آثَارُهَا فِي النَّفْسِ، فَالْجَزَاءُ عَلَيْهَا يَكُونُ بِحَسَبِ تَأْثِيرِهَا فِي النَّفْسِ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ وَصْفًا لَهَا لَا يُفَارِقُهَا بِالْمَوْتِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [139] فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرَهُ السَّابِقَ فِي هَذَا الْجُزْءِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فِي أَهْلِ السَّيِّئَاتِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُحْتَاجُ إِلَى نَفْيِ وُقُوعِ الظُّلْمِ عَلَيْهِمْ، وَلاسيما أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ مِنْهُمْ، مَعَ مَا وَرَدَ مِنَ الشِّدَّةِ فِي وَصْفِ عَذَابِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَظْلِمُهُمْ بِالْجَزَاءِ فَإِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ عَقْلًا وَنَقْلًا، وَالْآيَاتُ فِيهِ كَثِيرَهٌ، وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا» إِلَخْ. وَالَّذِي صَرَّحُوا بِهِ أَنَّهَا فِي الْفَرِيقَيْنِ، فَإِنَّ مَعْنَى الظُّلْمِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ النَّقْصُ مِنَ الشَّيْءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [18: 33] ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى كُلِّ تَعَدٍّ وَإِيذَاءٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ لَا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمَا ذُكِرَ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ إِذْ لَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا كَسْبَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يُمَكِّنُهُ مِنَ الظُّلْمِ كَمَا يَفْعَلُ الْأَقْوِيَاءُ الْأَشْرَارُ فِي الدُّنْيَا بِالضُّعَفَاءِ. وَفِي جَوَازِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِالظُّلْمِ وَعَدَمِهِ جِدَالٌ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، يَتَأَوَّلُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآيَاتِ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ فِيهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْحَقِّ فِيهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَيُرَاجَعُ فِيهِ وَفِي مَعْنَى مُضَاعَفَةِ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [4: 40] فَإِنَّهُ يُجَلِّي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُ مَا فِي خِلَافِ الْأَشْعَرِيَّةِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنَ الضَّعْفِ فِي مَسْأَلَةِ جَوَازِ الظُّلْمِ عَلَى الْبَارِي تَعَالَى عَقْلًا وَاسْتِحَالَتِهِ بِحَيْثُ لَا يُقَالُ إِنَّ الْبَارِيَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ.
رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ- ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى كَتَبَهَا اللهُ لَهُ، أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِذَلِكَ. وَأَخَذُوا هَذَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا قَالَ: «يَقُولُ اللهُ إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ» وَهَذَا يُفَسِّرُ كِتَابَةَ تَرْكِ عَمَلِ السَّيِّئَةِ حَسَنَةً بِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ لِأَمْرٍ سَلْبِيٍّ مَحْضٍ بَلْ لِعَمَلٍ نَفْسِيٍّ، وَهُوَ مُخَالَفَةُ النَّفْسِ بِكَفِّهَا عَنْ عَمَلِ السَّيِّئَةِ مِنْ أَجْلِ ابْتِغَاءِ رِضْوَانِ اللهِ وَاتِّقَاءِ سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَقُولُ: وَاللهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ- فَقُلْتُ: قَدْ قُلْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؛ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَذَلِكَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيِّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعُهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَالسِّتَّةَ أَيَّامٍ بِسِتِّينَ يَوْمًا.
وَمِنَ الْمَبَاحِثِ الْكَلَامِيَّةِ فِي الْآيَةِ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ: إِنَّ الثَّوَابَ كُلَّهُ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ مِنْهُ شَيْئًا، وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ الثَّوَابَ هُوَ الْمَنْفَعَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ عَلَى الْعَمَلِ وَالتَّفَضُّلَ الْمَنْفَعَةُ غَيْرُ الْمُسْتَحَقَّةِ، وَإِنَّ الثَّوَابَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ التَّفَضُّلِ فِي الْكَثْرَةِ وَالشَّرَفِ، إِذْ لَوْ جَازَ الْعَكْسُ أَوِ الْمُسَاوَاةُ لَمْ يَبْقَ فِي التَّكْلِيفِ فَائِدَةٌ فَيَكُونُ عَبَثًا وَقَبِيحًا، مِنْ ثَمَّ قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَغَيْرُهُ: يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ الْأَمْثَالِ فِي جَزَاءِ الْحَسَنَةِ تَفَضُّلًا وَالثَّوَابُ غَيْرُهَا وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ هُوَ الثَّوَابَ وَالتِّسْعَةُ تَفَضُّلًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ أَعْظَمَ وَأَعْلَى شَأْنًا مِنَ التِّسْعَةِ. وَنَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا، وَإِذَا كَانَ التَّفَضُّلُ مَا زَادَ وَفَضَلَ عَلَى أَصْلِ الثَّوَابِ الْمُسْتَحَقِّ بِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ فَأَيُّ مَانِعٍ أَنْ يَزِيدَ الْفَرْعُ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ تَابِعٌ لَهُ وَمُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ الثَّوَابُ حِينَئِذٍ عَبَثًا عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لَوْ كَانَ التَّفَضُّلُ يَحْصُلُ بِدُونِهِ فَيُسْتَغْنَى بِهِ عَنْهُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إِشْكَالَاتٍ شَرْعِيَّةً وَأَجَابَ عَنْهَا أَجْوِبَةً ضَعِيفَةً قَالَ:
الْأَوَّلُ كُفْرُ سَاعَةٍ كَيْفَ يُوجِبُ عِقَابَ الْأَبَدِ عَلَى نِهَايَةِ التَّغْلِيظِ. (جَوَابُهُ) أَنَّهُ كَانَ الْكَافِرُ عَلَى عَزْمٍ أَنَّهُ لَوْ عَاشَ أَبَدًا لَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ أَبَدًا، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعَزْمُ مُؤَبَّدًا عُوقِبَ عِقَابَ الْأَبَدِ، خِلَافَ الْمُسْلِمِ الْمُذْنِبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى عَزْمِ الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ عُقُوبَتُهُ مُنْقَطِعَةً. انْتَهَى بِنَصِّهِ.
وَنَقُولُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ:
أَوَّلًا: إِنَّنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ يَعْزِمُ أَوْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ الْعَزْمُ الْمَذْكُورُ وَلاسيما مَنْ عَرَضَتْ لَهُ عَقِيدَةٌ أَوْ فَعْلَةٌ مِمَّا عَدُّوهُ كُفْرًا سَاعَةً مِنَ الزَّمَانِ وَمَاتَ عَلَيْهَا، وَالْكَفْرُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ لَا يَنْحَصِرُ فِي جُحُودِ الْعِنَادِ وَرُبَّمَا كَانَ أَكْثَرُ الْكُفَّارِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ نَاجُونَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
ثَانِيًا: أَنَّ كَوْنَ الْعِقَابِ الْأَبَدِيِّ عَلَى الْعَزْمِ الْمَذْكُورِ يَحْتَاجُ إِلَى نَصٍّ، وَالْعَقْلُ لَا يُوجِبُهُ بَلْ لَا يُوجِبُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ حُكْمًا مَا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَهَذَا الْإِشْكَالُ لَا يَرِدُ عَلَى مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ هُنَا تَبَعًا لِمَا وَضَّحْنَاهُ مِرَارًا مِنْ كَوْنِ الْجَزَاءِ عَلَى قَدْرِ تَأْثِيرِ الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ فِي النَّفْسِ.
ثَالِثُهَا: قَدْ تَنَصَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِمِثْلِ مَا نَقَلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ {خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [128] وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَفْيُ كَوْنِ الْعَذَابِ أَبَدِيًّا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَثَانِيهُمَا تَفْوِيضُ الْأَمْرِ فِيهِ إِلَى حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ.
ثُمَّ قَالَ:
الثَّانِي: إِعْتَاقُ الرَّقَبَةِ الْوَاحِدَةِ، تَارَةً جُعِلَ بَدَلًا عَنْ صِيَامِ سِتِّينَ يَوْمًا وَهُوَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَتَارَةً جُعِلَ بَدَلًا عَنْ صِيَامِ أَيَّامٍ قَلَائِلَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ.
جَوَابُهُ: أَنَّ الْمُسَاوَاةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِوَضْعِ الشَّرْعِ وَحُكْمِهِ اهـ.